مهرجان البندقية السينمائي الدولي 2025: دورة استثنائية تحتفي بروعة الفن وقوة السينما العالمية
في قلب مدينة البندقية الساحرة، حيث تلتقي المياه بأسرار التاريخ، أُسدل الستار على فعاليات الدورة الـ82 من مهرجان البندقية السينمائي الدولي 2025، في حدث وصفه النقاد بأنه من أكثر الدورات تميزًا ونجاحًا في السنوات الأخيرة. هذه الدورة لم تكن مجرد منصة لعرض الأفلام، بل تحولت إلى احتفالية عالمية جمعت بين الفن والإبداع، الرسائل الإنسانية، والدقة التنظيمية التي جسدت المعنى الحقيقي للسينما كقوة ناعمة قادرة على التأثير في المجتمعات وصياغة الوعي العالمي.
منذ اليوم الأول لانطلاق المهرجان، بدت الأجواء مختلفة بشكل لافت.
فالسجادة الحمراء كانت نابضة بالحياة، يزينها حضور نجوم من العيار الثقيل مثل جوليا روبرتس، كيت بلانشيت، جورج كلوني، وجود لو، إلى جانب نخبة من صناع السينما العالميين. أما التنظيم فقد جاء على أعلى مستوى، حيث أبهرت إدارة المهرجان ضيوفها بتفاصيل دقيقة بدءًا من استقبال الضيوف، مرورًا بجدولة العروض، وصولاً إلى تجهيزات القاعات التي جمعت بين الحداثة والفخامة الإيطالية التقليدية.
السجادة الحمراء: سحر يليق بمدينة البندقية
لطالما ارتبط مهرجان البندقية بمشاهد القوارب الفاخرة التي تقل النجوم عبر قنوات المدينة، إلا أن هذا العام حمل لمسة خاصة، حيث اتخذت السجادة الحمراء طابعًا أكثر حيوية وأناقة. جلسات التصوير بدت كلوحات فنية نابضة، بينما التفاعل بين الجمهور والنجوم عكس روحًا احتفالية جعلت المهرجان يتصدر العناوين العالمية منذ يومه الأول.
أفلام استثنائية ورؤى إنسانية عميقة
تميزت هذه الدورة بتنوع غير مسبوق في نوعية الأفلام المعروضة، حيث نجح المهرجان في تقديم مزيج متناغم من الأعمال الفنية التي جمعت بين التجريب والعمق، الجماليات البصرية، والرسائل الإنسانية والسياسية.
وقد أثبتت هذه الأفلام أن السينما ليست ترفيهًا فقط، بل هي وسيلة للتعبير عن قضايا العالم الملحة.
الأسد الذهبي: انتصار للإنسانية
نال المخرج الأمريكي الكبير جيم جارموش جائزة الأسد الذهبي عن فيلمه الرائع Father Mother Sister Brother.
الفيلم عبارة عن ثلاث لوحات إنسانية ترصد تعقيدات العلاقات العائلية وما تحمله من حب، فقدان، وتسامح.
وخلال كلمته المؤثرة، قال جارموش:
“السينما ليست مطالبة بأن تكون سياسية بشكل مباشر، يكفي أن تزرع التعاطف بين البشر، فذلك وحده كفيل بتغيير العالم.”
كانت هذه اللحظة بمثابة تتويج لمسيرة فنية حافلة، ورسالة واضحة عن قوة السينما في بناء الجسور بين الشعوب.
جائزة لجنة التحكيم الكبرى: صوت غزة في قلب أوروبا
لحظة لا تُنسى عاشها الحضور حين تم الإعلان عن فوز فيلم “صوت هند رجب” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية بجائزة لجنة التحكيم الكبرى.
الفيلم وثق القصة المأساوية للطفلة الفلسطينية هند رجب التي قُتلت في غزة، مستخدمًا تسجيلات صوتية حقيقية لمكالمة الطفلة مع الهلال الأحمر الفلسطيني.
وقف الجمهور مصفقًا لمدة 23 دقيقة متواصلة، في مشهد نادر جسّد قوة الفن في فضح الظلم ونقل الحقيقة.
وفي كلمتها المؤثرة، قالت بن هنية:
“هذه الجائزة ليست لي، بل لكل أطفال غزة، ولكل إنسان يرى أن السينما يمكن أن تكون سلاحًا في وجه الصمت.”
تنظيم يليق بمكانة المهرجان
من أبرز ما ميز دورة هذا العام التنظيم المحكم الذي حاز إعجاب النقاد والضيوف على حد سواء.
- تم تقسيم العروض بشكل يضمن انسيابية الحضور وتفادي الاكتظاظ.
- وفرت الإدارة قنوات تواصل حديثة عبر تطبيق رقمي خاص، يمكّن الضيوف من الاطلاع على الجداول وتأكيد حجوزاتهم بسهولة.
- كما تم الاهتمام بأدق التفاصيل، من النقل البحري للنجوم إلى تهيئة مساحات ترفيهية وإعلامية، ما جعل التجربة فريدة ومريحة.
هذا التنظيم عزز سمعة مهرجان البندقية كواحد من الأكثر رقيًا واحترافية على مستوى العالم، وجعل الحضور يتحدثون عن الدورة بوصفها نموذجًا يُحتذى به في إدارة الفعاليات العالمية.
جوائز قسم آفاق والنجاحات العالمية
ضمن قسم “آفاق” الذي يسلط الضوء على الأصوات السينمائية الجديدة، جاءت النتائج لتعكس تنوع الإبداعات العالمية:
- أفضل فيلم: On the Road للمخرج ديفيد بابلو.
- أفضل مخرج: أنوبارنا روي عن Songs of Forgotten Trees.
- أفضل ممثلة: الإيطالية بينديتا بوركارولي عن The Kidnapping of Arabella.
- أفضل ممثل: جياكومو كوفي عن Un Anno di Scuola.
- أفضل سيناريو: آنا كريستينا باراغان عن The Ivy.
- أفضل فيلم قصير: Without Kelly للمخرجة *لوفيزا سيرين.
كما حصدت المخرجة المغربية مريم التوزاني جائزة الجمهور عن فيلمها Calle Malaga، في إنجاز جديد للسينما المغربية التي تثبت حضورها القوي عالميًا.
أصداء عالمية وحضور عربي مميز
لم تقتصر أصداء المهرجان على حدود مدينة البندقية، بل امتدت لتصل إلى مهرجانات ومؤسسات سينمائية أخرى حول العالم.
وقد شكلت المشاركة العربية عنصر فخر، حيث نجح المبدعون العرب في ترك بصمة واضحة، سواء من خلال الجوائز أو الحضور الفني القوي.
السينما كقوة للتغيير
دورة 2025 من مهرجان البندقية أكدت أن السينما لم تعد مجرد وسيلة للترفيه، بل أصبحت لغة عالمية تحمل قضايا الشعوب، وتدعو إلى التغيير.
من مأساة غزة إلى صراعات العائلات، ومن قصص الحب إلى مواجهة القضايا السياسية، أثبتت الأفلام أن الفن السابع قادر على التأثير في وجدان العالم.
ختام يليق بالمهرجان الأعرق
أسدل الستار على هذه الدورة في حفل ختامي مهيب، جمع بين التكريم والاحتفاء بروح الإبداع.
وقف الجميع على أقدامهم تحيةً للفن وللرسائل التي حملتها هذه الأفلام، في مشهد عكس قيمة المهرجان كمؤسسة عالمية لا تهدف فقط إلى عرض الأفلام، بل إلى إحداث فارق حقيقي في العالم.
مع انتهاء فعاليات الدورة الـ82، يثبت مهرجان البندقية أنه ما زال المرجع الأول للسينما العالمية، وأنه المكان الذي تلتقي فيه القلوب والعقول، حيث تبحر السينما في بحور الإبداع لتصل إلى مرافئ الأمل والإنسانية