العودة إلى الوطن: حين تتكلم السينما لغة الإنسان وتكشف الظلال المنسية
في ربيع 2025، وفي قلب مدينة كان الفرنسية التي تتحول كل عام إلى مزار عالمي للسينما، لمع اسم هندي بجرأة ناعمة، وأطل على الشاشة الكبيرة ليحمل وجعاً شخصياً وجماعياً في آن.
“العودة إلى الوطن” ليس مجرد فيلم عُرض ضمن قسم “نظرة ما” في الدورة الثامنة والسبعين لمهرجان كان، بل هو صوت صارخ من صميم صمت الهند المنسية، ومرآة شديدة الصفاء لطبقات اجتماعية كثيراً ما حجبتها العدسات اللامعة لبوليوود.
من “ماسان” إلى العالم: مسار نيراج غايوان الروحي والسينمائي
قبل خمسة عشر عاماً، دخل نيراج غايوان أبواب كان لأول مرة بفيلمه “ماسان”، حكاية عن الحزن والحب والطبقية في مدينة فاراناسي، فصعد به إلى مصاف كبار السينمائيين المستقلين في آسيا. يومها، كتب لنفسه هوية سينمائية واضحة: مقاومة التهميش بالمجهر الإنساني، والتسلل إلى تلك الزوايا التي يُنظر إليها عادةً كهوامش، رغم أنها في الحقيقة تمثل المتن الاجتماعي لشبه القارة الهندية.
فيلم “ماسان” كان صرخة خافتة، أما “العودة إلى الوطن” فهو تنهيدة طويلة، حزينة أحياناً، عذبة غالباً، لكنها بالغة الصدق في كل لحظة.
حين يُولد الفيلم من المقال: كيف بدأت “العودة إلى الوطن”؟
قصة هذا العمل بدأت بمقال رأي كتبه الصحفي بشارات بير في صحيفة نيويورك تايمز تحت عنوان “Taking Amrit Home”. وقد اقترح على غايوان قراءته صديقه سومين ميشرا، رئيس قسم التطوير الإبداعي في شركة “دارما للإنتاج”. لم يكن المقال مجرد نص صحفي عابر؛ كان بمثابة مفتاح سردي كشف لغايَوان عن عوالم داخلية لمجتمعات مسحوقة، وعن صداقة تبدو غير مألوفة في السياق الهندي المعاصر: مسلم وداليت، في مواجهة وطن لا يرحب بكليهما.
هكذا، بدأ غايوان في تشييد فيلمه كما يبني النحات تمثالاً من صخر الذاكرة، نحت تفاصيله من تجربة شخصية، ونسجها بخيوط خيال فني عميق.
مارتن سكورسيزي… الحليف غير المتوقع
منح الفيلم زخماً إضافياً انضمام المخرج العالمي مارتن سكورسيزي كمنتج منفذ، بعد أن عرف بالمشروع عبر المنتجة الفرنسية ميليتا توسكان دو بلانتير. كان سكورسيزي، المعروف بعشقه للسينما العالمية الكلاسيكية، منبهرًا بسيناريو الفيلم، حتى أنه شارك بتوجيهات تحريرية خلال المونتاج، وتعمق في فهم خلفياته الثقافية والاجتماعية. ولعلّ هذا الدعم أضفى على الفيلم بعداً عالمياً ومصداقية إضافية لدى النقاد.
قال سكورسيزي في بيانه: “أحببت ماسان، وهذا الفيلم يحمل الروح نفسها، لكنه أوسع وأكثر نضجاً. نيراج غايوان يثبت نفسه كصوت لا يمكن تجاهله في السينما العالمية.”
دراما إنسانية مكثفة: القصة التي أبكت كان
الفيلم يتتبع رحلة صديقين منذ الطفولة: محمد شعيب علي (إيشان خاتر) المنتمي لأقلية مسلمة، وتشاندان كومار (فيشال جيثوا) من طبقة الداليت، وهما شابان يحلمان بالالتحاق بقوة الشرطة، بحثاً عن شرعية مهنية ومكانة اجتماعية طالما حُرما منها. في زمن الجائحة، تتحول رحلتهما إلى مشي طويل عبر ولايات الهند، مطاردَين بالفيروس، والعطش، والانتماء.
بذكاء سينمائي، لا يقدم غايوان شخصياته كضحايا بائسين، بل كأفراد مشبعين بالحياة والكرامة، يمارسون الحب، ويغنون، ويشكون من وجع الأقدام، ويضحكون، رغم عتمة الطريق.
أداء خاتر وجيثوا كان حيوياً وعميقاً. أما جانفي كابور، فقد فاجأت الجميع بدور رقيق لامرأة من الداليت تقع في حب أحد البطلين، مقدّمة أداء صادقاً بعيداً عن الأداء البوليوودي النمطي.
بين الواقعية والخيال: بصرية آسرة وسيناريو متماسك
واحدة من أقوى ميزات الفيلم هي تصويره. في الريف الشمالي للهند، التقط المصور لحظات من الضوء الشتوي، والأزقة الغبارية، والأجساد المتعبة وهي تسير بلا وجهة مؤكدة. لا مبالغة في اللقطة، ولا جماليات زائفة. فقط حقيقة.
السيناريو لم يتوقف عند الحكاية الأساسية، بل نثر خيوطاً ذكية من التعليق الاجتماعي: فساد الشرطة، تسليع الجائحة، استغلال الفقراء سياسياً، والأهم… هشاشة الهويات الطائفية والطبقية في وجه أزمة كبرى.
التصفيق العاصف: كان يستجيب للصدق
في ختام عرضه ضمن قسم “نظرة ما”، وقف جمهور مهرجان كان مصفقاً لتسع دقائق كاملة. كان العناق بين غايوان والمنتج كاران جوهر مؤثراً، وكذلك دموع الطاقم. كما شهد العرض حضور شخصيات كبرى من عالم السينما مثل ميرا نايّر وصيّام صادق، اللذين قدما دعمهما للفيلم وأكدا أن الجنوب الآسيوي يملك اليوم أحد أهم الأصوات السينمائية في العالم.
رسالة صريحة للعالم: المهمّشون ليسوا أرقاماً
غايوان، الذي نشأ في أسرة داليت، أدرك منذ طفولته أن اسمه وتاريخه العائلي سيشكلان عبئاً في مجتمعه. ومع ذلك، قاوم بالإبداع، لا بالاستعراض. في كلمته بعد العرض، قال: “في الهند، ثمة مجتمعات تُختزل في إحصاءات حكومية. أردت أن أُخرج أحد هؤلاء الأشخاص من الرقم، وأرينا العالم كيف يعيش، كيف يحب، وكيف يحلم.”
“العودة إلى الوطن”… ليس مجرد فيلم
هذا العمل ليس مجرد قصة عن الجائحة، ولا حتى عن التمييز الاجتماعي. هو فيلم عن معنى الانتماء، عن أحلام البشر التي لا تموت حتى في أحلك الظروف، وعن الصداقات التي تنمو في التربة القاحلة وتزهر رغم كل شيء.
في “العودة إلى الوطن”، لا نيراج غايوان ولا أبطاله يصرخون في وجه النظام، بل يتحدثون بصوت منخفض، لكنه عميق بما يكفي ليصل إلى آخر قاعة في مهرجان كان… بل وربما إلى آخر قرية على نهر الغانج.