فيلم Sirat يحصد جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان كان السينمائي 2025

في لحظة طافحة بالشغف والاعتراف، أعلن رئيس لجنة التحكيم مساء السبت 24 مايو 2025، فوز الفيلم الإسباني “Sirat” بجائزة لجنة التحكيم الكبرى ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في دورته الثامنة والسبعين، مُكرّسًا بذلك مكانة الفيلم كواحد من أبرز الإنجازات السينمائية لهذا العام، ومرسخًا اسم مخرجه أوليفر لاكس كصوت جديد في عالم الفن السابع، قادر على مدّ الجسور بين الأسطورة والواقع، بين السينما كحكاية والسينما كتجربة وجودية.

رحلة عبر المدى والذاكرة… في عمق الصحراء المغربية

“Sirat” ليس مجرد فيلم عن فقدان، بل هو سردية شاعرية عن عبور داخلي بقدر ما هو عبور جغرافي. يتتبع العمل رحلة أب، يؤدي دوره باقتدار سيرجي لوبيز، ينطلق في أعماق صحارى جنوب المغرب باحثًا عن ابنته المفقودة، مصطحبًا ابنه الأصغر في محاولة لفهم الغياب، واستيعاب الخسارة، وربما مصالحة الذات.

الصحراء، في هذا العمل، لا تظهر كمجرد خلفية بصرية بل تتحول إلى شخصية قائمة بذاتها، إلى مسرح وجودي تُختبر فيه الأسئلة الكبرى حول الحب، الفقد، الزمن، والهوية. وبين حبات الرمل ونوبات الصمت الطويلة، يولد نوع من السينما يتجاوز الكلمات.

أوليفر لاكس: سينما تمشي على الحافة بين الأسطورة والواقع

في المؤتمر الصحفي الذي أعقب العرض العالمي الأول للفيلم ضمن فعاليات المهرجان، تحدث المخرج أوليفر لاكس عن عمق الرؤية التي تقف خلف هذا العمل، قائلًا:

“Sirat هو تأمل في فكرة الطريق، لا بالمعنى الجغرافي، بل كحالة وجودية. هو فيلم عن الإنسان عندما يُجبر على رؤية العالم من داخله.”

اللافت في تصريحات لاكس كان إقراره بتأثره بأسماء سينمائية بحجم روبرت بريسون وأندريه تاركوفسكي، مع تأكيده أنه يسعى لتقديم سينما على صلة بتجارب ومخاوف جيل اليوم. وقال:

“أردت أن أكون في حوار مع الحاضر. Sirat ليس فقط قصة بحث عن شخص مفقود، بل احتفال بالشعور، بالزمن، بالصورة كوسيلة لتجسيد الإدراك.”

سينما تتكئ على الصمت والفراغ لتقول ما لا يُقال

واحدة من نقاط قوة “Sirat” تكمن في بنائه البصري المتقشّف، حيث يُستبدل الحوار بالتنفس، والموسيقى بالرياح، والحركة بالصمت الثقيل الذي يملأ الفراغات كما تملؤها الذكريات. هذه المقاربة الأسلوبية تعزز التجربة الحسية للمُشاهد، وتضعه داخل المتاهة العاطفية التي يمرّ بها أبطال الفيلم.

الأداء التمثيلي، خاصة من برانو نونيز أرخونا في دور الابن، جاء مدهشًا في صدقه وعمقه، محمولًا بنظرات مراهقة تحاول أن تفهم العتمة خلف الأب، والخراب الهادئ داخل الروح.

إنتاج أوروبي مشترك… وتجذّر في الجنوب المغربي

جدير بالذكر أن الفيلم جاء ثمرة تعاون إنتاجي بين إسبانيا وفرنسا، وقد صُوّر في مواقع طبيعية في المغرب، حيث استغل فريق العمل ضوء الجنوب وتضاريسه القاسية لصناعة تجربة بصرية لا تُنسى. ووفق مصادر إعلامية، فإن “Sirat” سيتم إطلاقه في دور العرض الإسبانية ابتداءً من 6 يونيو 2025، وسط ترقب نقدي كبير واهتمام جماهيري واضح بعد فوزه في “كان”.

جائزة مُستحقّة لرؤية فنية ناضجة

في دورة شهدت منافسة شديدة وأعمالًا من العيار الثقيل، يُعد فوز “Sirat” بجائزة لجنة التحكيم الكبرى بمثابة اعتراف بنضج فني ولغة سينمائية متفرّدة، تتحدّى الاستسهال وتغامر بالتجريب.

الفيلم لا يمنح إجابات، بل يطرح الأسئلة بعمق، ويصيغ السينما كرحلة داخل الإنسان، لا خارجه. وبفوزه، يضيف أوليفر لاكس اسمه إلى لائحة المخرجين الذين لا يكتفون بأن يكونوا رواة، بل يشكّلون أدوات للبحث عن المعنى في عالم متسارع ومفكك.

ختامًا… “Sirat” مرآة سينمائية تسير في صحراء الذات

في نهاية المطاف، “Sirat” ليس مجرد فيلم نال جائزة، بل تجربة وجودية ستظل تطارد المتفرج بعد مغادرته القاعة. فيلم يُشبه طريقًا ممتدًا إلى الداخل، حيث لا خلاص بلا تأمل، ولا عبور دون اعتراف.

وبين الصحراء الشاسعة وصمت الذاكرة، منحنا “Sirat” فرصة نادرة لمشاهدة السينما وهي تُمارس فعلها الأجمل: أن تُنصت.

Leave A Reply

Your email address will not be published.