كان 2025 : تنوّع في الرؤى وتوهّج في السرد… والسينما تُعيد تعريف ذاتها
يواصل مهرجان كان السينمائي في نسخته الـ78 زخمه الإبداعي، مكرّسًا موقعه كأكبر منصة عالمية للسينما المعاصرة، حيث شهد يوم الأربعاء 21 مايو 2025 مجموعة من العروض اللافتة التي وزعت بين المسابقة الرسمية، فئة “نظرة ما”، العروض الخاصة، وكلاسيكيات الشاطئ، في توليفة فنية غنية جمعت بين الأسماء اللامعة والوجوه الصاعدة.
هذا اليوم السينمائي الطويل لم يكن مجرد تقويم لعرض الأفلام، بل احتفال متجدد بالشكل، المضمون، والجرأة على الحكي.
⸻
صباحات كان… باناهي وجوهانسون يتصدران البداية
بدأت العروض عند التاسعة والنصف صباحًا، مع حضور قوي للسينما الإيرانية والنسوية، حيث تصدّر جعفر بناهي قائمة المتابعة النقدية بفيلمه الجديد “UN SIMPLE ACCIDENT”، الذي يُعدّ بمثابة عودة تأملية إلى الذات والواقع الإيراني، عُرض في قاعات Agnès Varda وCineum IMAX وسط اهتمام مكثف من الصحافة الدولية.
أما المفاجأة الأكبر فكانت مع أولى تجارب النجمة العالمية سكارليت جوهانسون في الإخراج، من خلال فيلمها الحميمي “ELEANOR THE GREAT”، الذي عُرض ضمن فئة “نظرة ما”. العمل يحكي قصة امرأة في السبعين من عمرها تعيد اكتشاف حياتها في لحظة انهيار داخلي، بلغة سينمائية ناضجة تجاوزت كل التوقعات.
وفي المسرح الكبير Lumière، أطلّ المخرج الإيطالي ماريو مارتوني بفيلمه “FUORI”، وهو عمل درامي كثيف النفس، يتناول أزمة الهوية الأوروبية في عالم يتجه نحو العزلة والانغلاق.
⸻
الظهيرة: أفلام طلابية… وغزة تحكي عن نفسها
عند الظهيرة، كانت البوصلة متجهة نحو قسم La Cinef، المخصص للأفلام الطلابية، حيث تم عرض أربعة أفلام قصيرة ضمن “الجزء الثاني” في قاعة Buñuel، وسط اهتمام متزايد من جمهور النقاد الذين يتابعون هذا القسم كمختبر مبكر لمستقبل السينما.
الحضور العربي كان حاضرًا بقوة من خلال فيلم “ONCE UPON A TIME IN GAZA” للأخوين ناصر، الذي يُعرض ضمن “نظرة ما”، حيث مزج بين التسجيلي والدرامي، ناقلًا واقع قطاع غزة بلغة تلامس الشعر والأسى معًا. كما عُرض فيلم “HOMEBOUND” للمخرج الهندي نيراج غايوان، الذي تناول مسألة العودة القسرية والحنين الجارح في مجتمعات الشتات.
وفي قسم العروض الخاصة، حضرت ريبيكا زلوتوفسكي بفيلمها الجديد “VIE PRIVÉE”، الذي يُعدّ تأملًا عاطفيًا في العلاقات الحديثة، وهو استكمال لمشروعها السابق “Une fille facile” لكن بنبرة أكثر نضجًا ومأساوية.
⸻
العصر: ويس أندرسون وجوليا دوكورنو يسيطران على الحديث
بعد الظهيرة، جاء الدور على العرّاب المهووس بالتناظر والتفاصيل: ويس أندرسون. حيث عُرض فيلمه الجديد “THE PHOENICIAN SCHEME” في Cineum 3 وسط احتفاء كبير. الفيلم يحكي قصة مخطط أثري يتورط في شبكة جواسيس تعود إلى الحضارات القديمة، في تركيبة أسلوبية تحاكي أفلامه السابقة لكن بنَفَس أكثر سوداوية.
وفي ذات الوقت، خطف الأنظار فيلم “AISHA CAN’T FLY AWAY” للمخرج المصري مراد مصطفى، الذي قُدم في ثلاث صالات ضمن قسم “نظرة ما”. العمل روائي طويل يُعدّ الأول لمصطفى بعد نجاحه في الأفلام القصيرة، ويطرح قصة عاملة منزل أفريقية في القاهرة، بين الصمت والهروب.
أما جوليا دوكورنو، مخرجة فيلم Titane الحائز على السعفة الذهبية سابقًا، فقد عادت إلى المسابقة الرسمية بفيلمها الجديد “ALPHA”، الذي مزج الرعب الجسدي بالفلسفة البيئية، في عمل صادم ومذهل بصريًا، لا يخلو من طموح تقني وفكري واضح.
⸻
المساء: رومانسية، رعب تاريخي، وكلاسيكيات تتلألأ
في المساء، توزعت العروض بين دراما أوروبية وتاريخ مشحون. المخرجة الإسبانية كارلا سيمون قدّمت عملها الجديد “ROMERÍA” في Lumière، وهو دراما روحية عن رحلة حج نسائية في إقليم كاتالونيا، تجمع بين التراث والدين والأسئلة الأنثوية.
وفي قاعات IMAX وLicorne، عُرض فيلم “LOVE ME TENDER”، وهو تجربة شاعرية عن الفقد والتعلق، بينما شهدت قاعات Varda وAurore العرض الأول لفيلم “THE DISAPPEARANCE OF JOSEF MENGELE” للمخرج الروسي كيريل سيريبرينيكوف، وهو عمل شديد التوتر عن آخر أيام الضابط النازي الشهير في الأرجنتين.
وقبل منتصف الليل، كان الجمهور على موعد مع “THE HISTORY OF SOUND” للمخرج أوليفر هيرمانوس، في عرضه الثاني ضمن المسابقة الرسمية، مؤكدًا مكانته كأحد الأفلام المرشحة بقوة للجوائز الكبرى.
⸻
نهاية الليل: كلاسيكيات الشاطئ وسينما بمذاق الشعر
تحت السماء المفتوحة، وعلى شاطئ Plage Macé، عُرض الفيلم البريطاني الكلاسيكي “DARLING” (1965) من إخراج جون شليسنجر، ضمن سلسلة Cannes Cinéma de la Plage، في ليلة حملت عبق الزمن الجميل وسط نسمات الريفييرا.
وفي ختام اليوم، تنافس فيلمين على لقب الإغلاق المثالي:
•العرض الثالث لفيلم “FUORI”، الذي حظي بإقبال غير مسبوق.
•والفيلم النرويجي العميق “AFFEKSJONSVERDI (SENTIMENTAL VALUE)” للمخرج يوآخيم ترير، الذي قُدم في المسرح الكبير، ضمن أحد أقوى عروض المسابقة الدولية.
⸻
مهرجان لا يشيخ… بل يتجدّد
يوم الأربعاء كان تجسيدًا حيًا لمعنى التنوّع السينمائي: بين كبار الأسماء وتجارب الشباب، بين الشرق والغرب، وبين الواقع والخيال. لم يكن مجرّد جدول عروض، بل مشهدًا ديناميكيًا ينبض بالحياة والتساؤل.
مهرجان كان 2025 يستمر حتى 24 مايو، لكن أيامه لا تُعد بالأرقام، بل بالأفكار التي يزرعها في وعي المشاهد، والمفاجآت التي ما زالت قادمة.