
كان 2025: حين تنزع السينما أقنعتها… وتواجه ذاتها
على ضفاف الريفييرا الفرنسية، وتحت سماء لا تزال تُجيد ارتداء زُرقتها كفستان افتتاحي، تنطلق الدورة الثامنة والسبعون من مهرجان كان السينمائي وهي تُشهر السينما في أنقى حالاتها: لا بوصفها ترفاً ثقافياً أو بروتوكولاً فنياً، بل كضرورة وجودية تمتحن الزمن، وتكتبُ بالحواس ما يعجز عن قوله العقل.
منذ أيامه الأولى، بدا أن “كان 2025” ليس مجرد محطة لعرض أفلام جديدة، بل مرآة مشروخة تتأمل فيها السينما ملامحها، تُصوّب شيئاً من غرورها، وتُواجه السؤال الأهم: إلى أين تمضي؟ بل، لمن باتت تُصنع؟ وفيما تتصاعد نبرات النقاش العالمي حول الذكاء الاصطناعي، واختفاء الوسطاء الإبداعيين، وانهيار القاعات التقليدية، جاء المهرجان هذا العام ليستعيد الفن السابع بوصفه تجربة حسية وفكرية، لا مجرد ملف رقمي يُنتج ويُحمّل ويُنسى.
الذاكرة… كهاوية سردية
اتسمت أفلام الأسبوع الأول بثيمة مشتركة تكاد تكون عصب هذه الدورة: الذاكرة، لا بوصفها أرشيفاً، بل كهروب وانهيار، أو كبناء متشظٍ يقاوم النسيان.
في الفيلم الفرنسي الافتتاحي “إجازة ليوم واحد” لأميلي بونا، نرى بطلته تتخبط بين الماضي العائلي والمستقبل الفردي، فيما يبدو كهروباً مألوفاً من الجذور. لكن، ورغم حرارة الثيمة، جاء الفيلم كمن يطهو وجبة بمقادير محفوظة دون نكهة خاصة. سردٌ خجول، ومقاربة لا تكشف عن نفسها إلا لتتراجع، تطرح سؤال الانتماء دون أن تجازف بالاقتراب من جوابه. بدا وكأن الفيلم لا يطمح سوى لتأدية فروضه الرمزية دون أن يُقلق أحدًا، لا جمهورًا ولا صُناع سينما.
أما الألمانية ماشا شيلينسكي، فقد قلبت هذا الهدوء إلى عاصفة غامضة في “صوت السقوط”، عبر تركيب بصري وصوتي أقرب إلى الشعر الكابوسي منه إلى السرد التقليدي. فيلمها لا يُروى، بل يُغرق المتلقي في بحر من الأصوات المتقاطعة، والوجوه الضبابية، والحقب الزمنية المتداخلة، في محاولة لتجسيد الذاكرة النسائية لا كحكاية بل كجُرح. لكنه، وللأسف، وقع في فخ ذاته: كلما حاول أن يكون أكثر حسّية، فقد تماسكه، حتى باتت الشخصيات بلا صوت، والصوت بلا هوية. تجربة بصرية وفكرية طموحة، لكنها كمن يحاول الإمساك بالماء، فلا يُبقي على شيء سوى البلل.
صراط: عبور بلا وعد بالخلاص
وسط هذا التردد بين الحنين والرمزية، جاء الفيلم الإسباني “صراط” لـأوليفر لاشي كصفعة سينمائية بكل معنى الكلمة. لاشي، المخرج الذي لطالما اشتغل على الحدود بين التصوف والسينما، يعود هنا بفيلم يتجاوز الحكاية ليصبح طقساً وجودياً.
بطله، الأب لويس، لا يبحث عن ابنته فقط، بل عن معنى نفسه في زمن غريب، وجغرافيا لا تعترف بلغته. في قلب جبال الأطلس، وسط مهرجان تكنو صاخب يقام في أرض كأنها ما بعد نهاية العالم، يتقاطع الصوت بالصورة، ويصير الجسد هو المتلقي الحقيقي للفيلم. لاشي لا يقدم إجابات، لا يفسّر شيئًا، بل يصدم، يربك، ويتركك تلهث. “صراط” ليس عن الجنة أو النار، بل عن ذلك الجسر المستحيل بين الاثنين، حين تصبح السينما هي العبور ذاته، لا الذاكرة ولا الحكاية.
ضوء جان لوك غودار… في آخر النفق
وفي لحظة ذكية، لا تفتقد للحنين، أطلّ ريتشارد لينكليتر بفيلمه الجديد “الموجة الجديدة” كاستراحة مرحة ومؤلمة في آن. استعادة شغوفة لباريس 1959، لحظة ميلاد “Breathless”، حين قرر جان لوك غودار أن السينما لا تحتاج إلى سيناريو لتكون عظيمة.
لينكليتر، بذكائه السردي المعهود، يخلق فيلماً يُحاكي روح غودار، لا أسلوبه فقط. الكاميرا تتحرّك بخفة، الشخصيات تخاطب الجمهور، القواعد تتهاوى، كل شيء يحتفل بتلك اللحظة التي كانت فيها السينما ضرباً من الجنون الجميل. الفيلم لا يروي عن الماضي، بل يدعونا لنعي أن السينما، قبل أن تصبح صناعة، كانت مغامرة.
فسيفساء بلا خاتمة
حتى الآن، ما يميز “كان 2025” ليس وحدة المزاج، بل تنوعه الجذري. بين الحنين والحداثة، بين الأفلام التي تحاول “قول شيء مهم” وتلك التي تهمس فقط بما تشعر به، تتشكل فسيفساء معقدة.
ثمة أفلام تتعثر بثقل أفكارها، وأخرى تُحلّق بخفة، أفلام تصرخ من أجل الانتباه، وأخرى تهمس بثقة من يعرف أن لا حاجة للصراخ. لكن ما يجمعها جميعاً، هو هذا الإيمان – ربما الغريزي – بأن السينما، مهما تغيرت تقنياتها، لا تزال مكاناً للقلق، وللسؤال، وللأثر الذي لا يُمحى بسهولة.
وإذا كان علينا أن نختار لحظة واحدة تلخّص كل ما حدث حتى الآن، فهي مشهد الأب في “صراط” وهو يمشي وسط الصحراء، متأرجحاً بين الظلام والضوء، لا يعرف إن كان يقترب أم يضيع. هذه هي السينما اليوم: تمشي، تهوِي، تنهض، تبحث… لكنها لا تتوقف