مجرد حادث”.. جعفر بناهي يتوج بالسعفة الذهبية في مهرجان كان وسط تحدٍ سياسي وفني

 

كان – فرنسا

في لحظة طغى فيها الفن على السياسة، والسينما على القمع، تُوّج فيلم “مجرد حادث” للمخرج الإيراني جعفر بناهي، مساء السبت، بـالسعفة الذهبية في الدورة الثامنة والسبعين من مهرجان كان السينمائي، أحد أرفع التظاهرات السينمائية في العالم.

الفيلم، الذي صُوّر سرًّا داخل إيران، يسرد قصة أخلاقية غارقة في الرمزية، حول العدالة والانتقام والتعافي من الذاكرة المؤلمة، ويُعد العمل الحادي عشر لبناهي، الذي لم تخلُ مسيرته يوماً من التحديات، بدءاً من المنع من التصوير، إلى السجن، وحتى التضييق الذي لا يزال يلاحقه حتى بعد تسلّمه الجائزة.

قصة من واقع السجون.. والسرد بلغة المجاز

يحكي الفيلم قصة وحيد (الذي جسده وحيد مبصري)، وهو سجين سابق اختطف رجلاً بساق صناعية يشبه الجلّاد الذي عذّبه ذات يوم في المعتقل. وبمساعدة ناجين آخرين من التعذيب، يسعى وحيد للتحقق من هوية الرجل، في صراع داخلي حول العدالة والانتقام والغفران.

بناهي اختار أن يُعري السلطة عبر شخصية تسائل أخلاقها وحقيقة عدالتها، في عمل يلامس الواقع الإيراني ويترجم آلام السجناء السياسيين في ظل نظام لا يحتمل الصوت المعارض.

عودة بعد غياب.. وقلق من المصير

وللمرة الأولى منذ 15 عامًا، تمكّن المخرج البالغ من العمر 64 عامًا من الحضور شخصيًا إلى مهرجان كان، رغم أنه كان ممنوعًا من السفر منذ 2010، بعد أن حكمت عليه السلطات الإيرانية بالسجن لمدة ست سنوات، ومنعته من التصوير لـ20 سنة.

وفي كلمته المؤثرة خلال تسلمه الجائزة، قال بناهي بلغة فارسية تُرجمت على منصة المهرجان:

“أعتقد أن هذه اللحظة مناسبة لأطلب من كل الإيرانيين، باختلاف آرائهم، في الداخل والخارج، أن يضعوا جانبًا كل الخلافات، لأن الأهم الآن هو حرية بلدنا”.

رغم الاحتفاء الكبير، فإن المصير الذي ينتظر بناهي في طهران يبقى غامضًا، لا سيما بعد أن أُنجز الفيلم دون الحصول على ترخيص، وشاركت فيه ممثلات ظهرن دون حجاب، في تحدٍّ مباشر لقوانين الجمهورية الإسلامية.

الفن كسلاح في وجه الظلم

رئيسة لجنة التحكيم، الممثلة الفرنسية جولييت بينوش، أعلنت الجائزة بكلمات تعبّر عن فلسفة المهرجان:

“الفن يحرك الطاقة الإبداعية لأثمن ما فينا… إنه قوة تُحوّل الظلام إلى غفران، إلى أمل، وإلى حياة جديدة”.

الفوز الذي أتى في خضم توتر سياسي داخلي في إيران، يُعدّ تتويجًا رمزيًا لمقاومة الفنان ضد القمع. وهو أيضًا انتصارٌ للفن الملتزم الذي لا يهاب المواجهة، ويستخدم الكاميرا كأداة للتحرر.

ثاني إيراني ينال السعفة الذهبية

بناهي أصبح بذلك ثاني مخرج إيراني ينال السعفة الذهبية، بعد الراحل عباس كياروستامي الذي توّج بها عام 1997 عن فيلمه الشهير “طعم الكرز”.

وفي العام الماضي، فاز مواطنه محمد رسولوف بجائزة خاصة عن فيلمه “بذرة التين المقدس”، قبل أن يفرّ من إيران إلى أوروبا، هربًا من أحكام السجن.

جوائز أخرى بطابع إنساني وسياسي

بعيدًا عن تتويج بناهي، عرفت الدورة الثامنة والسبعين لمهرجان كان تتويجات بارزة:

  • جائزة أفضل ممثلة ذهبت إلى نادية مليتي عن دورها في فيلم “الصغيرة الأخيرة” للمخرجة الفرنسية من أصل تونسي حفصية حرزي. أدت مليتي دور فتاة مسلمة تكتشف مثليتها الجنسية، في معالجة جريئة لثنائية الهوية والانتماء.
  • جائزة أفضل إخراج كانت من نصيب كليبير ميندوزا فيلهو عن فيلم “العميل السري”، بينما فاز بطل الفيلم فاغنر مورا (نجم “ناركوس”) بجائزة أفضل ممثل.
  • جائزة أفضل سيناريو عادت للأخوين داردين عن فيلمهما “الأمهات الشابات”، الذي يتناول واقع المراهقات الأمهات في دور رعاية ببلجيكا.
  • الجائزة الكبرى، ثاني أرفع جوائز المهرجان، ذهبت إلى الفيلم النرويجي “القيمة العاطفية” للمخرج يواكيم ترير، والذي لقي إشادة نقدية واسعة.

غياب أمريكي واضح.. وحضور نخبوي

الغريب هذا العام أن الأفلام الأمريكية غابت عن منصة الجوائز، رغم مشاركة أعمال ضخمة كـ “إدينغتون” لـآري أستر من بطولة خواكين فينيكس، وفيلم “داي ماي لوف” لـلين رامساي مع جنيفر لورانس.

وقد فضّلت لجنة التحكيم، التي ضمّت أسماء بارزة كـهالي بيري وجيريمي سترونغ، الأفلام ذات النَفَس الفني والإنساني، على حساب الإنتاجات الهوليوودية الضخمة.

مهرجان التأمل.. لا الترف

رغم العروض التي شهدت حضور نجوم عالميين كـتوم كروز ودينزل واشنطن وسكارليت جوهانسون، فإن الدورة الحالية لمهرجان كان حملت طابعًا أكثر تأملاً وإنسانية من السنوات السابقة.

في زمن تشتعل فيه النزاعات حول العالم، وتضيق فيه الحريات، جاء تتويج جعفر بناهي كرسالة واضحة مفادها:

أن الفن لا يُسجن، والصورة أقوى من القيد.

Leave A Reply

Your email address will not be published.