مواهب تتألق تحت أضواء كان السينمائي 2025: جيلٌ جديد يُعيد تشكيل لغة الصورة
في كل دورة من دوراته المرموقة، لا يكتفي مهرجان كان السينمائي الدولي بتكريم الكبار، بل يمد يده إلى الجيل الصاعد، ويمنح منصته الذهبية لأولئك الذين يخطون خطواتهم الأولى بثقة في عالم الفن السابع. هذا العام، وخلال الدورة الـ78 التي أقيمت بين 13 و24 مايو 2025، سطع نجم عدد من المواهب الشابة التي استحقت عن جدارة لقب “مواهب تستحق المتابعة”، وفق ما نشره الموقع الرسمي للمهرجان.
هذه الأسماء، التي جلبت معها نَفَساً جديداً وإبداعاً متفرّداً، لم تكن مجرد حضور عابر، بل علامات بارزة في مستقبل السينما العالمية، تنوعت خلفياتها الجغرافية والثقافية، لكنها اجتمعت على طموحٍ واحد: قول الحقيقة عبر السينما، بكاميرا صادقة وروح مشتعلة بالأسئلة.
لوسيا.. مرآة المخرجة في “روميرا”
من إسبانيا، خطفت الأنظار لوسيا، الممثلة الشابة التي تألقت في فيلم “Romera” للمخرجة كارلا سيمون، الذي شارك في المسابقة الرسمية. في هذا العمل، لم تكن لوسيا تؤدي دوراً تقليدياً، بل جسّدت صورة خيالية من المخرجة نفسها في سنوات شبابها، عندما كانت ابنة مراهقة فقدت والديها بسبب الإيدز وأُرسلت للعيش في الريف الكتالوني. عبْر عيونها، عاش الجمهور تجربة الفقد، والتكوين، والبحث عن الهوية وسط الحقول وعتمة الغياب.
أداء لوسيا جاء مفعماً بالعفوية والحس الداخلي، وأثبت أن للبساطة قوة سينمائية لا تُضاهى.
أكينولا ديفيز.. صوت نيجيريا الصادق
من لندن إلى لاجوس، ومن السينما التجريبية إلى مهرجان كان، حقق المخرج النيجيري أكينولا ديفيز إنجازاً تاريخياً بفيلمه “Shadow of My Father” الذي شارك في قسم “نظرة ما”، كأول فيلم نيجيري يدخل المسابقة الرسمية لهذا القسم.
يحمل الفيلم سيرة ذاتية مكثّفة ليوم واحد من حياة أب تهزه الفوضى السياسية في نيجيريا عام 1993. بالتعاون مع شقيقه والي ديفيرز، أعاد أكينولا خلق هذا اليوم المربك بعدسة شاعرية ولغة بصرية جريئة، في تجربة وصفها النقاد بأنها “تخترق الذاكرة كضوء خاطف”.
نادية مليتي.. صعودٌ ناري من قلب باريس
بفيلم “La Petite Sœur” للمخرجة حفصية حرزي، حققت الفرنسية من أصول جزائرية نادية مليتي أحد أبرز اختراقات المهرجان. أداؤها، الذي منحها جائزة أفضل ممثلة في كان 2025، جسّد معاناة شابة من أبناء المهاجرين تكافح لتحقيق توازن بين طموحها واستحقاقات هويتها.
نادية، التي لم يتجاوز عمرها الخامسة والعشرين، منحت الشخصية عمقاً داخلياً مدهشاً، بلغة جسد توصل ما تعجز عنه الكلمات، ما جعلها إحدى أكثر الأسماء تداولاً بين النقاد والمتابعين.
هاري لايتون.. شاعر الصورة من بريطانيا
في أول أعماله الروائية الطويلة، قدّم المخرج البريطاني هاري لايتون فيلماً بعنوان “Pillion”، استناداً إلى رواية Box Hill، فاز بجائزة أفضل سيناريو ضمن قسم “نظرة ما”.
لايتون، الذي بدأ مسيرته من أكسفورد بأفلام قصيرة ذات طابع أدبي، نسج بفيلمه عالماً عاطفياً شفيفاً يستكشف العلاقة بين شابين في إطار من الصمت والرغبة والهشاشة النفسية. قيل عن الفيلم إنه “يرقص على حافة الكلمات”، وهي أفضل وصف لأعمال مخرج يفكك المعنى داخل الصمت.
ديبورا كريستيل لوب ناني.. صوت أفريقيا الجديدة
بأدائها في فيلم “Promis le ciel” للمخرجة إريج سهيري، خطفت الممثلة الإيفوارية ديبورا كريستيل لوب ناني الأنظار، وقدّمت وجهاً إنسانياً لقصة تنبض بعمق اجتماعي.
شارك الفيلم في قسم “نظرة ما”، وسلط الضوء على قضايا الطبقية والحرمان في مجتمعات ما بعد الاستعمار. ديبورا، رغم حداثة تجربتها، تعاملت مع الدور برصانة الممثلات المخضرمات، وكأنها تقف على خشبة الحياة لا الكاميرا.
دييغو سيسبيديس.. شاعر تشيلي الجديد
بعد أن خطف الأضواء في 2018 بجائزة “سينيفونداسيون”، عاد دييغو سيسبيديس إلى كان بفيلمه الروائي الطويل الأول “La Misteriosa Mirada del Flamenco”، الذي حصد الجائزة الكبرى لقسم “نظرة ما”.
الفيلم، الذي يغوص في موضوعات الهوية والذكورة والسياسة عبر عوالم سحرية وشاعرية، أكد أن دييغو ليس مجرد موهبة واعدة، بل كاتب رؤيوي يعيد تشكيل اللغة السينمائية من العمق اللاتيني.
يوي سوزوكي.. طهر الطفولة اليابانية
في دورها الأول على الإطلاق، قدّمت اليابانية يوي سوزوكي أداءً لا يُنسى في فيلم “Renoir” للمخرج تشي هاياكاوا. جسّدت فيه فتاة تعيش معاناة عائلية حادّة في طوكيو الثمانينيات، وسط مرض والدها وضغوط الحياة اليومية.
وصف النقاد أداءها بأنه “مرآة للطفولة المكسورة، وروح تُرى ولا تُمس”، وهو ما يؤشر على انطلاقة مهنية قد تجعلها إحدى أبرز وجوه السينما اليابانية في السنوات المقبلة.
أميلي بونين.. من القصير إلى العاصفة الكبرى
من بوابة الفيلم القصير الحائز على جائزة سيزار، دخلت المخرجة أميلي بونين إلى خانة الكبار بفيلمها الروائي الأول “Leave One Day”، الذي افتتح فعاليات المهرجان.
الفيلم، الذي جمع بين الكوميديا والموسيقى والدراما، طرح موضوعات الفقد والانتماء بعين عصرية مرحة. وقد لاقى استقبالاً حاراً، جعله من أبرز مفاجآت الدورة الـ78.
غيوم ماربيك.. بطل الموجة الجديدة
في أول دور سينمائي رئيسي له، جسّد الفرنسي غيوم ماربيك شخصية جان-لوك غودار في فيلم “Nouvelle Vague” للمخرج الأميركي ريتشارد لينكليتر. الفيلم الذي يحتفي بتاريخ السينما الفرنسية، وتحديداً حقبة “الموجة الجديدة”، تلقى تصفيقاً دام أكثر من 6 دقائق.
ماربيك استطاع نقل تعقيد شخصية غودار بذكاء نفسي وتقمص مذهل، جعله محط إشادة كبار النقاد الفرنسيين والأميركيين على حد سواء.
قد تكون هذه المواهب في بداياتها، لكن ما قدمته في مهرجان كان 2025 يكفي ليؤكّد أن السينما لا تزال بخير، ما دامت روح الاكتشاف مستمرة، وعدسة المهرجان مفتوحة لاستقبال القصص الجديدة، من كل اللغات والثقافات.
جيلٌ جديد يتقدم، لا ليقلد من سبقوه، بل ليكتب فصلاً مختلفاً في تاريخ الفن السابع… بخطوط أكثر جرأة، ومشاعر أكثر كثافة، وأحلام أكبر من الشاشة ذاتها.