نيجيريا تقتحم “الكان”: حين دخلت نوليوود التاريخ من أوسع أبوابه في مهرجان السينما الأرقى عالميًا
في مشهد سيظل محفورًا في ذاكرة السينما الأفريقية، دوّى التصفيق طويلًا في إحدى قاعات قصر المهرجانات بمدينة كان الفرنسية، حيث احتفى جمهور النخبة السينمائية بفيلم My Father’s Shadow (ظل أبي) للمخرج النيجيري أكينولا ديفيز. لم يكن التصفيق فقط للفيلم أو لرؤية إخراجية مميزة، بل أيضًا لتاريخ يُكتب لأول مرة: دخول نوليوود، أكبر ماكينة سينمائية في أفريقيا، لأول مرة إلى الساحة الرسمية لمهرجان كان السينمائي.
منذ تأسيسه سنة 1946، لم يعرف المهرجان الفرنسي – والذي يُعتبر المعيار الذهبي لصناعة السينما العالمية – فيلمًا نيجيريًا يترشح لأي من مسابقاته الرسمية. إلا أن دورة هذا العام، الـ78، كسرت ذلك الجدار الصلب، حين اختارت لجنة تحكيم قسم “نظرة ما” الفيلم النيجيري ضمن قائمتها. هذا القسم، الذي يُخصص عادة للأصوات السينمائية الجديدة والتجارب البصرية الطموحة، أصبح منبرًا لسينما قادمة من قلب أفريقيا، صنعت نفسها بعيدًا عن الأضواء العالمية، لكنها اليوم تدخل إليها بثقة وجدارة.
ظل الأب… ووضوح الرؤية
فيلم ظل أبي ليس مجرد تجربة شخصية، بل لوحة اجتماعية وسياسية مرهفة تعيد قراءة مرحلة حساسة في تاريخ نيجيريا بداية التسعينيات، حين كانت البلاد تعيش اضطرابات سياسية خانقة. من خلال حكاية أب يختفي عن طفليه، ينسج المخرج وشقيقه ويلز ديفيز – الذي كتب السيناريو – خيوطًا من الغياب والفقد، لكنها لا تخلو من أسئلة فلسفية حول معنى الأبوة، والتوازن المعقد بين الكدّ من أجل العيش، والحضور العاطفي في حياة العائلة.
أكينولا ديفيز، الذي ترعرع بين نيجيريا وإنجلترا، اختار أن يصور الفيلم في قلب لاغوس، أكبر مدن القارة الأفريقية وأكثرها صخبًا، خلال ستة أسابيع وصفها بـ”أولمبياد لوجستي”. ومع كل يوم تصوير، كان هناك مونتاج ميداني، بل أحيانًا قرارات فنية تُتخذ في لحظتها – طريقة قد تبدو بدائية، لكنها تعكس عقلية “صنع في نوليوود”، تلك التي خلقت سينما ضخمة بوسائل بسيطة، وروح لا تقبل الهزيمة.
نوليوود… قوة ناعمة تواجه تحديات قاسية
لعل من المفارقات التي يحملها دخول فيلم نيجيري إلى مهرجان كان، أن نوليوود اليوم تعيش واحدة من أكثر مراحلها اضطرابًا. فعلى الرغم من كونها ثاني أكبر منتج للأفلام عالميًا – بأكثر من 2500 فيلم سنويًا، متقدمة على هوليوود – إلا أن هذه الصناعة لا تزال تعاني من مشاكل بنيوية مزمنة: ضعف التمويل، قلة البنية التحتية، وهجرة الكفاءات.
وفي العام الماضي، تعرضت الصناعة لهزة قوية بعد إعلان منصات كبرى مثل أمازون برايم ونتفليكس عن تقليص استثماراتها في السينما النيجيرية. كان ذلك بمثابة صفعة موجعة، خصوصًا بعد أن شكّلت هذه المنصات لفترة نافذة أساسية لخروج نوليوود من الطابع المحلي والانفتاح على جمهور عالمي.
ورغم هذا الانحسار في التمويل الخارجي، وجدت نيجيريا نفسها مضطرة للعودة إلى نقطة البدء: الاعتماد على النفس. ومن هنا، جاءت مبادرة “Screen Nigeria” الحكومية، التي أُطلقت رسميًا خلال مهرجان كان، وتهدف إلى تحفيز الاستثمار في الصناعة السينمائية، وخلق مليوني فرصة عمل بحلول 2030.
المنتجة النيجيرية ليليان أولوبي، التي قدمت في المهرجان فيلمًا تاريخيًا ضخمًا بعنوان أوزاميدي، ترى في هذه المرحلة الصعبة فرصة لإعادة تعريف النموذج الإنتاجي النيجيري، قائلة: “ربما هي لحظة مخاض لولادة جديدة، حيث نصنع أفلامنا وفق شروطنا نحن، لا وفق مقاييس السوق العالمية”.
أبطال محليون بطموحات عالمية
ما يميز التجربة النيجيرية في مهرجان كان هذا العام، ليس فقط التمثيل الرسمي عبر فيلم ظل أبي، بل أيضًا الحضور النشط لصنّاع أفلام نوليوود في الأنشطة الموازية. فإلى جانب أولوبي، حضر المخرج جيمس أوموكوي الذي يأمل أن يجذب فيلمه أوزاميدي موزعين عالميين، خاصة وأنه يستند إلى أسطورة من بنين، ويحاكي أفلام مثل Black Panther وThe Woman King.
“لدينا قصص أبطال خارقين، لكنها محلية جدًا، ونحن بحاجة إلى تسليط الضوء عليها”، يقول أوموكوي. ويضيف: “لن نجني شيئًا من إنتاج ضخم إن لم نتمكن من عرضه خارج نيجيريا. إفريقيا كلها سوق واعدة، والعالم مستعد لسماع قصصنا، إن أحسنّا تقديمها”.
كان يفتح الباب
الرسالة التي خرجت بها نيجيريا من مهرجان كان هذه السنة واضحة: الباب أصبح مفتوحًا. وليس أي باب، بل بوابة النخبة الفنية العالمية، حيث يتشكل الرأي السينمائي، وتُصنع التوجهات الكبرى. هذه البوابة التي كانت مغلقة لعقود في وجه نوليوود، باتت الآن مشرعة بفضل جيل جديد من المخرجين والمنتجين الذين لا يخافون من كسر السائد، ولا ينتظرون مباركة الغرب لصناعة رؤاهم.
ربما لا يحصد فيلم ظل أبي جائزة “نظرة ما”، وربما يمر مروره الأول من كان دون تتويج. لكن ما تحقق في حد ذاته إنجاز، بل تحول رمزي كبير. نوليوود الآن على خارطة السينما العالمية، لا كمجرد صناعة كثيفة الإنتاج، بل كصوت فني، له حكاياته وأبطاله وأحلامه.
كما قال أكينولا ديفيز في لقاءه مع الصحافة: “لم أكن أتخيل أنني سأرى يومًا يُعرض فيه فيلمي في كان. لكنه حدث. وأعتقد أن ما بعده لن يكون كما قبله”.