ختام مهرجان كان 2025 : الدورة الأقوى منذ سنوات

في مساءٍ مهيب من مساءات الريفييرا الفرنسية، وتحديداً في 24 مايو/أيار 2025، أسدل الستار على الدورة الثامنة والسبعين من مهرجان كان السينمائي، بتتويج المخرج الإيراني المعارض جعفر بناهي بجائزة السعفة الذهبية عن فيلمه الثائر “كان مجرد حادث”، في لحظة سينمائية نادرة جمعت بين الفن والسياسة، وبين الجمال والجرأة.

السعفة الذهبية… لمن يستحق أن يُصغي العالم إليه

“كان مجرد حادث”، فيلم سياسي ساخر مغمور بحنقٍ حاد، يحكي قصة مجموعة من الناجين الذين يظنون أنهم عثروا على جلّادهم، ليدخلوا في دوامة الشك، الانتقام، والغفران. لا يُخفي بناهي غضبه، لكنه يروّضه بسينما ذكية، متعددة الطبقات، حيث يمتزج الهزل بالمأساة كما لو كان يعزف على وتر مشدود بين الخوف والتهكم. ولعلّ جائزة السعفة هنا لا تُمثّل فقط اعترافاً بجودة الفيلم، بل تحية لسينمائي طالما قاوم القمع بالصورة والكلمة.

موجة من الأعمال العظيمة: تجارب تُراهن على الذاكرة والهوية والانهيار

“مت يا حبيبي” – انكسار الحب بعد الولادة

المخرجة الأسكتلندية لين رامزي قدمت عملاً أشبه بلكمة عاطفية مباشرة. من بطولة جينيفر لورانس وروبرت باتينسون، جسّد الفيلم الانهيار العاطفي لما بعد الولادة في صورة لاذعة. النقاد وقفوا طويلاً أمام أداء لورانس، الذي وصفته ستيفاني زاكاريك بأنه “كهربائي في دقته”، بينما رأى فيه نيكولاس باربر أفضل أداء لها على الإطلاق. بيع الفيلم لصالح شركة موبي مقابل 24 مليون دولار في صفقة هي الأعلى في دورة هذا العام.

“صوت السقوط” – سينما تتنفس عبر الأجيال

فيلم ماشا شيلينسكي الألماني هو عمل شاعري، يجري في حقلٍ واحد، لكن على امتداد أربعة أزمنة. بأسلوب سردي أقرب إلى الأدب من السينما، ترسم شيلينسكي دوائر الألم العائلي المتوارث كما لو كانت نوتات على سلم موسيقي يُعزف بصبر. وصفه دامون وايز بـ”ملحمة بصرية تجعلك تنسى المهرجانات وتُفكر فقط بالإنسان”.

“بيليون” – عندما يتحول الحب إلى سؤال أخلاقي

العلاقة بين راكب دراجة نارية متوحش (ألكسندر سكارسغارد) ومفتش مواقف لطيف (هاري ميلينغ) في شوارع لندن تلامس المحرم والمُبهم في آنٍ واحد. الفيلم يبدأ برقة، لينتهي بشكٍ في مدى استحقاق الحب حين يصبح مؤذياً. مشهد الغداء الصادم مع ليزلي شارب كان لحظة مواجهة نادرة بين الجيل والعاطفة المفقودة.

“إدينغتون” – أمريكا تواجه نفسها

آري أستر، مخرج الرعب الذهني، يذهب بعيداً في فيلمه الجديد، الكوميدي السياسي، حيث يؤدي خواكين فينيكس دور عمدة مهووس يتخبط في جائحة وكراهية عنصرية. العمل أشبه بـ”غرب أميركي حديث” كما وصفته صوفي مونكس كوفمان، حيث تُحاصر الحكاية بالميديا، والخوف، والكوميديا السوداء.

“العميل السري” – تراث الديكتاتورية لا يموت

المخرج البرازيلي كليبر فيلهو قدّم فيلماً بطيئ الاحتراق لكنه عميق الإيحاء. الممثل فاغنر مورا يتألق بدور رجل هارب في زمنٍ لا مفر فيه من الماضي. فيلمٌ ذو نَفَس طويل، وصورة ساحرة، وقلق لا يُهدأ.

“القيمة العاطفية” – فن الآباء وأبناء الضوء

المخرج النرويجي خواكين ترير يعود مع رينات رينسفي في دراما ميتا-سينمائية تسائل العلاقة بين الأب والمخرجة، بين السيناريو والذكريات. فيلم مفعم بالمشاعر المكتومة، والتساؤلات عن شرعية الفن المستقى من الألم العائلي.

المفاجآت: حين يفاجئنا الهامش بمركزه

“سيرات” – ملحمة مغربية خارج التصنيف

الإسباني أوليفر لاكس يأخذنا إلى صحراء المغرب في فيلم يبدأ كدراما اختفاء، ليتحوّل إلى فيلم طريق وجودي كوميدي أسود، وكأن بيكيت كتب سيناريو ماد ماكس. تصميم صوتي مُبهر، تصويرٌ مذهل، ورؤية تحوّل الرمال إلى مرآة داخلية.

“ظل والدي” – نيجيريا تدخل إلى كان من الباب العريض

للمرة الأولى، يدخل فيلم نيجيري رسمي إلى كان. فيلم أكينولا ديفيز جونيور عن أب يأخذ ولديه في رحلة يوم الانتخابات، هو فيلم عن الأمل والخذلان، عن العائلة والوطن. نهاية الفيلم تُحاكي قصيدة وداعية لما لم يحدث أبداً.

صُنّاع التغيير: حين يقف الممثل خلف الكاميرا

كريستين ستيوارت – سينما الجرح والتجريب

فيلمها الأول كمخرجة، مقتبس من مذكرات ليديا يوكنافيتش، كان جريئاً في تركيبه، مفتتاً في بنائه، وعميقاً في صراحته. استعملت ستيوارت السينما كأداة تحليل نفسي متوحشة، ورغم افتقارها للتماسك أحياناً، كانت رؤيتها واضحة: الألم يستحق أن يُروى بصدق.

هاريس ديكنسون – كاتبٌ من شوارع لندن

فيلم “أورشين”، عن شاب بلا مأوى من خلفية ميسورة، يعكس وعياً طبقياً غير مألوف في أفلام ممثلين يتحولون إلى مخرجين. بأسلوب جاف، دون تزيين، استطاع ديكنسون أن يقدم أولى خطواته بإخراج يُذكّر بروح “كين لوتش”، مع حداثة بصرية محسوبة.

إشادة خاصة: ريتشارد لينكليتر يهمس لغودار

بين كل هذا الجنون، جاء فيلم لينكليتر تحيةً ناعمة للموجة الفرنسية الجديدة. رؤية خلف كواليس “لاهث” لغودار، بمزيج من النوستالجيا والفكاهة الذكية، ذكّرتنا بأن السينما لا تنتهي أبداً، بل تُعيد تشكيل ذاكرتنا إلى الأبد.

خاتمة المهرجان: الفن يربح عندما يخاطر

مهرجان كان 2025 لم يكن مجرد منصة عروض، بل ساحة اختبار للجرأة في زمن التكرار. انتصار بناهي لم يكن انتصاراً لفيلم فحسب، بل لسينما المقاومة. وهذا ما جعل من هذه الدورة واحدة من أكثر الدورات إثارة في تاريخ المهرجان.

كل الأفلام لم تُخلق متساوية، لكن أغلبها هنا كان محاولة للذهاب أبعد. وأحياناً، كل ما يحتاجه المخرج أن يُجرّب… وأن ينجو.

Leave A Reply

Your email address will not be published.